ما جرى في الأيام الأخيرة ليس مجرد مراجعة انتخابية، بل انعكاس لطبيعة دولة تعرف تمامًا كيف تُدار الأمور حين يتعلق الأمر بإرادة شعبها. فالتوجيهات التي صدرت من السيد الرئيس لم تكن إجراءً عابرًا، بل رسالة استراتيجية واضحة: لا صوت يُهمل، ولا نتيجة تُعلن ما لم تكن مطابقة للحقيقة التي جرت على الأرض.
اللافت أن التحرك جاء في توقيت بالغ الحساسية. الدولة لم تنتظر ضغوطًا سياسية أو إعلامية، بل بادرت من تلقاء نفسها، لأن استقرار الدول لا يقوم على غض الطرف عن الأخطاء، بل على الاعتراف بها وتصحيحها. وذلك ما يميز الدول الراسخة عن غيرها. لهذا كان توجيه الرئيس بتدقيق النتائج تعبيرًا عن نهج ثابت: حماية الحق قبل حماية الشكل، وصون الإرادة قبل صون الإجراءات.
الدوائر التي ذُكرت — سواء في نجع حمادي أو أبوتشت أو المراغة — ليست هي جوهر المشهد، لكنها كانت نقطة انطلاق لاختبار أكبر: هل لدى الدولة استعداد لمراجعة نفسها؟ والإجابة جاءت حاسمة. الهيئة الوطنية للانتخابات حصلت على تفويض كامل لاتخاذ ما يلزم، دون سقف ودون قيود، لأن المعيار الوحيد هو الحقيقة. وهذه هي النقطة التي تصنع الفارق في لحظات مشابهة في تاريخ الأمم.
ويمكن القول إن ما حدث يعكس احترامًا عميقًا للناخب قبل أي اعتبار آخر. فالعملية الانتخابية ليست مناسبة سياسية عابرة، بل ركيزة من ركائز الأمن القومي. صوت المواطن ليس رقمًا في صندوق، بل جزء من الإرادة العامة التي يُبنى عليها الاستقرار. لذلك كان لزامًا أن تتم المراجعة، وأن توجه الدولة رسالة واضحة مفادها أن ثقتها بنفسها أكبر من أن تتخوف من التصحيح.
أما من ناحية التوقيت، فقد جاء المشهد قبل انطلاق المرحلة الثانية، وهو ما يعكس إدراكًا حكيمًا بأن استكمال العملية على أرضية غير صلبة يفتح الباب لفوضى الشك. الدولة قطعت الطريق على هذا مبكرًا، وأعادت ضبط الإيقاع بحيث تجري المرحلة القادمة في مناخ أكثر انضباطًا وشفافية.
أما على مستوى المكان، فقد كانت الصعيد نقطة انطلاق الحدث، لكنها لم تكن مساحة للاتهام، بل مساحة لتأكيد أن العدالة الانتخابية لا تُجزّأ. ما يحدث في دائرة واحدة يعني مصر كلها. وما يُراجع هناك يعيد طمأنة مواطن في الإسكندرية كما يطمئن ناخبًا في أسوان.
ومع ذلك كله، فإن القراءة الهادئة للمشهد تشير إلى أننا أمام دولة تعيد إنتاج قدرتها على ضبط نفسها. دولة لا تخشى النظر إلى ذاتها، ولا تتردد في تصحيح مسارها، وتُدرك أن قوتها ليست في إنكار الأخطاء، بل في قدرتها على معالجتها بشجاعة وشفافية.
إن مصر — كما يوضح هذا المشهد — لا تترك صوتًا خلفها، ولا تقبل أن تُبنى مؤسساتها إلا على إرادة حرة واضحة. وإعادة المراجعة لم تكن إجراءً فنيًا بقدر ما كانت تأكيدًا على أن هذا الوطن يعرف قيمته ويصون قواعده.