في عالمٍ تتسارع فيه الأزمات وتتشابك فيه المصالح حتى باتت خيوط السياسة تمتد من غزة إلى كييف ومن بحر الصين إلى البحر الأحمر، يبدو المشهد الدولي أقرب ما يكون إلى لوحةٍ للفوضى المتقنة، تداخلت فيها الألوان حتى صعب على المراقب أن يميز بين الأبيض والأسود.
غير أن وسط هذا الضجيج، يبرز الدور المصري بوصفه نقطة اتزانٍ في بحرٍ مضطرب، إذ اختارت القاهرة أن تكتب حضورها بالحكمة لا بالصخب، وبالوعي لا بالانفعال، لتؤكد مجددًا أن الدولة التي تمتلك قرارها وتعرف موقعها من الجغرافيا والتاريخ، لا تُقاد بل تقود.
لقد أدركت مصر مبكرًا أن مرحلة ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية لن تكون كسابقتها، وأن العالم يتجه لإعادة رسم خرائط النفوذ والتحالفات، فاختارت التوازن كإستراتيجية دائمة، تُبقي على جسور التواصل مفتوحة مع الشرق والغرب في آنٍ واحد.
ولعل الموقف المصري من الحرب في غزة كان تجسيدًا لهذا الوعي العميق؛ فبينما انزلقت دولٌ إلى دائرة الاستقطاب، ظلت القاهرة تتعامل بمسؤولية دولة تعرف قيمة السلام، دون أن تتنازل عن ثوابتها أو عن حقوقها القومية.
وخلال السنوات الأخيرة، تمددت الفوضى عبر الأقاليم، لكن مصر حافظت على ثباتها عبر معادلة دقيقة بين الردع والاستقرار، بين القوة الهادئة والدبلوماسية الفاعلة.
لم تنخرط في صراعات عبثية، ولم تنسحب من واجباتها الإقليمية، بل أعادت تعريف دورها كفاعلٍ إقليميٍ محوريٍ يتعامل مع التحديات بمنطق الدولة لا منطق الموجة.
إنّ التوازن الذي تمارسه مصر اليوم ليس حيادًا سلبيًا كما قد يتصور البعض، بل هو فن إدارة الممكن في زمن اللاممكن، وممارسة لسياسةٍ عاقلةٍ تحفظ للدولة حضورها وهيبتها في عالمٍ يتغير كل يوم.
ولعل تلك هي مدرسة الدولة المصرية التي آمن بها قادتها وعبّر عنها التاريخ؛ مدرسةٌ تُدير الصراع لا لتنتصر في معركةٍ مؤقتة، بل لتصون استقرار أمةٍ ممتدة.
فبينما تنحدر القوى الكبرى إلى حافة الهاوية في سباق التسلح والتصعيد، تقف مصر بوعيها ورؤيتها لتثبت أن الأمن لا يُبنى بالمدافع وحدها، بل بالوعي، وبإدارة العلاقات الدولية على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
وهكذا، من قلب الفوضى التي تحاصر العالم، تمضي مصر بثقةٍ وهدوء نحو التوازن، مدركةً أن القوة الحقيقية لا تكمن في الانجرار إلى الحرب، بل في القدرة على منعها، وأن الاستقرار الذي تبنيه اليوم هو صمام أمانٍ للأمن الإقليمي والعالمي معًا.
إن مصر، حين يشتد اضطراب العالم، تتحول إلى ميزانه؛ وحين يفقد الكبار بوصلتهم، تبقى القاهرة صاحبة الاتجاه الصحيح.