منذ عقود طويلة إرتبط اسم الولايات المتحدة بالصراع العربي الإسرائيلي ارتباطًا وثيقًا حتى باتت واشنطن توصف بأنها “الراعي الأكبر” لإسرائيل. غير أنّ هذا الوجه المعلن يخفي وراءه حقيقة أكثر تعقيدًا وهي أنّ أمريكا ليست مجرد وسيط محايد، بل شريك مباشر في هذا الصراع.
فالولايات المتحدة تتحدث في خطابها السياسي عن القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان لكنها في الواقع تدعم بلا تردد سياسات إسرائيل العسكرية والإستيطانية. فهي الدولة التي ترفع شعار “حل الدولتين”، لكنها لم تُمارس يومًا ضغطًا حقيقيًا على تل أبيب لوقف الإستيطان أو احترام قرارات الشرعية الدولية.
بل إن المساعدات العسكرية الأمريكية الضخمة تحولت إلى رافعة أساسية لآلة الحرب الإسرائيلية.
هذا التناقض يتجلى كذلك داخل المشهد الأمريكي نفسه؛ ففي حين ينحاز الكونجرس والمؤسسات الرسمية بشكل شبه كامل لإسرائيل نجد داخل الجامعات والإعلام المستقل، وحركات المجتمع المدني تيارًا متناميًا ينتقد الإحتلال ويدعو إلى مقاطعته ومحاسبته.
هذا الإنقسام يعكس أن أمريكا ليست كتلة واحدة، بل هي ساحة صراع داخلي بين نفوذ اللوبيات المؤيدة لإسرائيل وأصوات العدالة والحرية.
غير أنّ الدور الأمريكي في الصراع لا يقتصر فقط على الدعم العسكري والسياسي، بل يمتد إلى صناعة الرواية الإعلامية عالميًا. فمعظم وسائل الإعلام الغربية الكبرى التي تحظى بدعم شركات ومؤسسات ضغط أمريكية تعمل على تقديم صورة منحازة تُظهر إسرائيل في موقع “الضحية” وتغطي على معاناة الفلسطينيين.
هذا التأثير الإعلامي ساهم في تشكيل وعي عالمي مشوّه حيث تُهمَّش حقوق الفلسطينيين في الخطاب الغربي بينما تُبرَّر الإعتداءات الإسرائيلية باعتبارها “دفاعًا عن النفس”.
إلى جانب ذلك، لا يمكن إغفال الدور الإقتصادي الذي تلعبه الشركات الأمريكية في دعم إسرائيل. فالتعاون التكنولوجي والعسكري بين الطرفين تجاوز حدود المساعدات الرسمية ليصبح شراكة إستراتيجية طويلة الأمد.
كما تحقق شركات السلاح الأمريكية الكبرى أرباحًا طائلة من إستمرار الصراع وهو ما يجعل السلام العادل غير متوافق مع مصالحها الإقتصادية المباشرة.
وفي المقابل، تتعرض السياسة الأمريكية لإنتقادات متزايدة من الداخل حيث تخرج مظاهرات واسعة في الجامعات والشارع الأمريكي رفضًا لإنحياز الإدارة لإسرائيل. هذه الأصوات رغم قوتها الرمزية تصطدم بصلابة البنية السياسية التقليدية التي يهيمن عليها اللوبي الإسرائيلي مما يوضح أن التغيير في الموقف الأمريكي لن يكون سهلاً أو سريعًا، لكنه بات يفرض نفسه كحقيقة متنامية لا يمكن إنكارها.
إنّ انحياز واشنطن لإسرائيل يُقدَّم باعتباره إلتزامًا إستراتيجيًا، لكن الوجه الآخر يكشف أن الثمن باهظ صورة دولية مهزوزة وعلاقات مضطربة مع العالمين العربي والإسلامي، ونقاش داخلي محتدم حول العدالة والتمييز.
فالتناقض بين الخطاب المثالي والممارسة المنحازة يضعف مصداقية أمريكا ويجعلها متهمة بإزدواجية المعايير كلما تحدثت عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ومن خلال هذا أؤكد الحقيقة الواضحة إذن أن أمريكا لم تكن يومًا وسيطًا نزيهًا، بل طرفًا أصيلًا يغذي إستمرار النزاع بدلًا من أن يكون عاملًا لحلّه. وبين الشعارات المعلنة والمصالح الخفية تظل واشنطن شريكًا كاملًا لإسرائيل في إدارة الصراع، لا بوابةً لتحقيق السلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. آية الهنداوي
مدرس الدراسات اليهودية
كلية الآداب – جامعة المنصورة.