منذ تأسيس المشروع الصهيوني تتكرر مشاهد الحروب والإعتداءات على الشعب الفلسطيني و تتغير الجبهات والأسلحة، لكن يبقى السؤال الأكثر تعقيدًا هو: ماذا يدور في عقلية اليهود، وتحديدًا العقلية الصهيونية حين يدخلون الحرب ضد شعب أعزل؟ هل هي مسألة أمنية بحتة؟ أم تُحركها دوافع دينية–تاريخية دفينة تشكّل وعيهم الجمعي عبر قرون من الأسطورة والإضطهاد والإنتظار اللاهوتي؟
وللإجابة على هذا التساؤل، أتناول في هذا المقال محاولة لفهم ما يدور داخل العقلية الصهيونية عند خوضها الحروب ضد الشعب الفلسطيني من خلال تحليل الأبعاد الدينية والفكرية والنفسية التي تشكّل هذا الوعي. وأسعى إلى تفكيك العلاقة بين اللاهوت والسلاح وكيف تسهم النصوص والتصورات التوراتية في بناء منطق الحرب وتبرير القتل باسم العقيدة.
من هنا، لا يمكن فصل أي عدوان إسرائيلي عن خلفيته الدينية–النصية. فالمؤسسة العسكرية والسياسية في إسرائيل –حتى في أكثر أجنحتها علمانية– لا تزال تتغذى من نصوص العهد القديم التي تم تأويلها وتأسيْسها كأساس للحق القومي اليهودي في “أرض الميعاد”. وقد صرّح حاخامات كبار أن الحرب ضد الفلسطينيين هي “تجديد لِحرب يشوع بن نون ضد الكنعانيين” .
وهنا تُستدعى مفاهيم مثل:
“حِرِم” – أي القتل التام باسم الله (سفر يشوع 6)
“النجاة القومية بالخلاص الإلهي”.
“أرض لا تسكنها إلا جماعة الله المختارة”.
هذه المفاهيم ليست مجرد تراث ديني، بل تُعاد صياغتها في العقل الإسرائيلي كشرعية للقتل والتطهير العرقي .
حيث يحمل اليهودي الإسرائيلي في عقله الجمعي تناقضًا وجوديًا مرعبًا من جهة أنه ضحية دائمة عبر التاريخ (الشتات، المحرقة) ومن جهة أخرى هو “شعب مختار” بتفوق إلهي وعددي وأخلاقي. هذا التناقض يولّد ذهنية ترى في الآخر تهديدًا دائمًا بل تراه أدنى منزلة وجوديًا.
وهنا تظهر ظاهرة “تشييء” الفلسطيني، أي نزع صفته الإنسانية في اللاوعي الإسرائيلي .فالآخر ليس إنسانًا بل عائقًا وجوديًا يجب حذفه، هذا ما وثّقه باحثون نفسيون مثل مئير شيلغتيل في دراساته عن النفسية الصهيونية .
أما في العقلية الصهيونية الحديثة وخاصة لدى النخب العسكرية والسياسية لم تعد الحرب مجرد أداة دفاع، بل أصبحت أداة هندسة إجتماعية وسياسية لبناء واقع إستيطاني دائم. فكل حرب تُشن ضد غزة أو الضفة تُستخدم أيضًا لإعادة ترتيب الداخل الإسرائيلي وتحقيق مكاسب إستراتيجية دولية خاصة في ظل صمت المجتمع الدولي وتطبيع عربي متزايد.
كما أن التيارات الدينية في إسرائيل خاصة في المستوطنات مازالت تؤمن بأن الحرب ضد الفلسطينيين هي جزء من مسار “الخلاص الموعود” الذي سيتوج ببناء الهيكل الثالث ونزول المسيح. هذه العقيدة تُغذي الحافز الديني للقتال، وتُقدم للفرد اليهودي تبريرًا روحيًا لأي عنف يمارسه بل تعتبره عملًا مقدسًا.
وفي هذا الإطار، يبرز ما يسمى بـ “اللاهوت التلمودي للحرب”، الذي يُجيز الإبادة الجماعية للآخر غير اليهودي في حالة تهديد أمن اليهود، كما ورد في نصوص مثل سفر المكابيين وسفر التثنية.
ومن خلال ما سبق طرحه ، أري أن فهم ما يدور في عقلية اليهودي الصهيوني عند خوض الحرب لا يمكن أن يُفهم فقط من منطلق الواقعية السياسية أو التوازنات الدولية، بل يجب أن يُفكك من داخله عبر تحليل النصوص المؤسسة والأساطير المكوِّنة، والبنية النفسية–الدينية المتأصلة في التاريخ اليهودي الحديث.
ولذلك ، أؤكد أن المواجهة لا يجب أن تكون بالسلاح وحده، بل بتفكيك الأسطورة وكشف المسكوت عنه في العقلية الصهيونية. وحده الوعي بحقيقة الصراع وجذوره اللاهوتية والنفسية يمكن أن يمنح القضية الفلسطينية أدوات أكثر فاعلية في فهم العدو والتعامل مع خطورته المعقدة.